فصل: فَصْلٌ: الدَّهْشُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الدَّهْشُ:

وَقَدْ تَعْرِضُ لِلسَّالِكِ دَهْشَةٌ فِي حَالِ سُلُوكِهِ، شَبِيهَةٌ بِالْبَهْتَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ رُؤْيَةِ مَحْبُوبِهِ. وَلَيْسَتْ مِنْ مَنَازِلِ السُّلُوكِ. خِلَافًا لِأَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ حَيْثُ جَعَلَهَا مِنَ الْمَنَازِلِ. بَلْ مِنْ غَايَاتِهَا. فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَيْسَتْ مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي كَلَامِ السَّالِكِينَ. وَلَا عَدَّهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالْمَقَامَاتِ. وَلِهَذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتَشْهِدُ بِهِ عَلَيْهَا سِوَى حَالِ النِّسْوَةِ مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.
فَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أَيْ أَعْظَمْنَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ: مَا حَصَلَ لَهُنَّ مِنْ إِعْظَامِهِ وَإِجْلَالِهِ: فَذَلِكَ مَنْزِلَةُ التَّعْظِيمِ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: مَا تَرَتَّبَ عَلَى رُؤْيَتِهِ لَهُنَّ، مِنْ غَيْبَتِهِنَّ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ وَعَنْ أَيْدِيهِنَّ، وَمَا فِيهَا حَتَّى قَطَّعْنَهَا: فَتِلْكَ مَنْزِلَةُ الْفَنَاءِ.
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ: الدَّهْشَةَ وَالْبَهْتَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُنَّ عِنْدَ مُفَاجَأَتِهِ- وَهُوَ الَّذِي قَصَدَهُ- فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ مَا يَغْلِبُ عَلَى صَبْرِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ لَيْسَ بِمَقَامٍ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا مَنْزِلٍ مَطْلُوبٍ لَهُمْ. فَعَوَارِضُ الطَّرِيقِ شَيْءٌ. وَمَنَازِلُهَا وَمَقَامَاتُهَا شَيْءٌ.
فَلِهَذَا قَالَ فِي تَعْرِيفِهِ الدَّهْشَ مَعْنَاهُ: بَهْتَةٌ تَأْخُذُ الْعَبْدَ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ مَا يَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ صَبْرِهِ، أَوْ عِلْمِهِ.
يُشِيرُ إِلَى الشُّهُودِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، وَالْحُبِّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى صَبْرِهِ، وَالْحَالِ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَى عِلْمِهِ.

.[دَرَجَاتُ الدَّهْشِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: دَهْشَةُ الْمُرِيدِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْحَالِ عَلَى عِلْمِهِ]:

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ لِدَهْشَةِ الْمُرِيدِ. الْأُولَى: دَهْشَةُ الْمُرِيدِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْحَالِ عَلَى عِلْمِهِ، وَالْوَجْدِ عَلَى طَاقَتِهِ، وَالْكَشْفِ عَلَى هِمَّتِهِ يَعْنِي: أَنَّ عِلْمَهُ يَقْتَضِي شَيْئًا، وَحَالَهُ يَصُولُ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ. فَهَذَا غَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُفْرِطًا. فَإِنَّ الْحَالَ لَا يَصُولُ عَلَى الْعِلْمِ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا فَاسِدٌ. إِمَّا الصَّائِلُ، أَوِ الْمَصُولُ عَلَيْهِ. فَإِذَا اقْتَضَى الْعِلْمُ سُكُونًا، فَصَالَ عَلَيْهِ الْحَالُ بِحَرَكَتِهِ: فَهِيَ حَرَكَةٌ فَاسِدَةٌ. غَايَةُ صَاحِبِهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لَا مَشْكُورًا. فَإِذَا اقْتَضَى الْعِلْمُ حَرَكَةً، فَصَالَ الْحَالُ عَلَيْهِ بِسُكُونِهِ: فَهُوَ سُكُونٌ فَاسِدٌ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ لِلسُّكُونِ وَالْخُشُوعِ عِنْدَ وَارِدِ السَّمَاعِ الْقُرْآنِيِّ. وَصَوْلَةُ الْحَالِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَزْعَقَ وَيَشُقَّ ثِيَابَهُ، أَوْ يُلْقِي نَفْسَهُ لِوُرُودِ مَا يُدْهِشُهُ مِنْ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ عَلَى قَلْبِهِ. فَيَصُولُ حَالُهُ عَلَى عَمَلِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي صَلَاةِ فَرْضٍ، لَأَبْطَلَهَا وَقَطَعَهَا.
وَمِثَالُ الثَّانِي: اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ حَرَكَةً مُفَرَّقَةً فِي رِضَا الْمَحْبُوبِ. فَيَصُولُ الْحَالُ عَلَيْهَا بِسُكُونِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ، حَتَّى يَقْهَرَهَا. وَهَذِهِ مِنْ مَقَاطِعِ الْقَوْمِ وَآفَاتِهِمْ. وَمَا نَجَا مِنْهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ، الْعَامِلُونَ عَلَى تَجْرِيدِ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَثْرَةُ صُوَرِ هَذَا مُغْنِيَةُ عَنْ كَثْرَةِ الْأَمْثِلَةِ.
فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُقَدِّمُ حَالَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْأَغْيَارِ وَالْأَعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيَصُولُ حَالُ الْجَمْعِيَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَرَكَةِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْعِلْمُ. كَمَا صَالَتْ حَرَكَةُ الْأَوَّلِ عَلَى السُّكُونِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ الْعِلْمُ.
قَوْلُهُ: وَالْوَجْدُ عَلَى الطَّاقَةِ يَعْنِي: أَنَّ وَجْدَ الْمُحِبِّ رُبَّمَا غَلَبَ صَبْرَهُ. وَصَالَ عَلَى طَاقَتِهِ. فَصَرَخَ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِهِ. بَلْ صُرَاخُهُ بِهِ وَاسْتِغَاثَتُهُ بِهِ عَيْنُ نَصْرِهِ إِيَّاهُ، حَيْثُ حَفِظَ عَلَيْهِ وَجْدَهُ. وَلَمْ يَرُدَّهُ فِيهِ إِلَى صَبْرٍ يَسْلُو بِهِ وَيَجْفُو. فَيَكُونُ ذَلِكَ نَوْعُ طَرْدٍ.
قَوْلُهُ وَالْكَشْفِ عَلَى هِمَّتِهِ يَعْنِي أَنَّ الْهِمَّةَ تَسْتَدْعِي صِدْقَ الطَّلَبِ وَدَوَامَهُ، وَالْكَشْفُ مَعْنَاهُ: هُوَ الشُّهُودُ. وَهُوَ فِي مَظِنَّةِ فَسْخِ الْهِمَّةِ وَإِبْطَالِ حُكْمِهَا. لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الطَّلَبَ. وَهُوَ يَقْتَضِي الْفُتُورَ. لِأَنَّ الطَّلَبَ لِلْغَائِبِ عَنِ الْمَطْلُوبِ، فَهِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَحْصِيلِهِ. وَصَاحِبُ الْكَشْفِ: فِي حُضُورٍ مَعَ مَطْلُوبِهِ. فَكَشْفُهُ صَائِلٌ عَلَى هِمَّتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا بَرَقَتْ بَارِقَةٌ مِنْ بَوَارِقِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَالٌ وَلَا هِمَّةٌ.
وَهَذَا أَيْضًا عَارِضٌ مَطْلُوبُ الزَّوَالِ. وَالْبَقَاءُ مَعَهُ انْقِطَاعٌ كُلِّيٌّ. فَإِنَّ السَّالِكَ فِي هِمَّةٍ، مَا دَامَتْ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ. فَإِذَا فَارَقَتْهُ الْهِمَّةُ انْقَطَعَ وَاسْتَحْسَرَ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَهْشَةُ السَّالِكِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْجَمْعِ عَلَى رَسْمِهِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَهْشَةُ السَّالِكِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْجَمْعِ عَلَى رَسْمِهِ، وَالسَّبْقِ عَلَى وَقْتِهِ، وَالْمُشَاهَدَةِ عَلَى رُوحِهِ.
الْجَمْعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ. وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ. وَبَايَنَ الْكَائِنَاتِ. وَرَسْمُ الْعَبْدِ عِنْدَهُمْ: هُوَ صُورَتُهُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. فَشُهُودُ الْجَمْعِ: يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى فَنَاءِ تِلْكَ الرُّسُومِ فِيهِ. فَلِلْجَمْعِ صَوْلَةٌ عَلَى رَسْمِ السَّالِكِ، يَغْشَاهُ عِنْدَهُمْ بَهْتَةٌ، هِيَ الدَّهْشَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا صَوْلَةُ السَّبْقِ عَلَى وَقْتِهِ فَالسَّبْقُ: هُوَ الْأَزَلُ. وَهُوَ سَابِقٌ عَلَى وَقْتِ السَّالِكِ. وَإِنَّمَا صَالَ الْأَزَلُ عَلَى وَقْتِهِ: لِأَنَّ وَقْتَهُ حَادِثٌ فَانٍ. فَهُوَ يَرَى فَنَاءَهُ فِي بَقَاءِ الْأَزَلِ وَسَبْقِهِ، فَيَغْلِبُهُ شُهُودُ السَّبْقِ، وَيَقْهَرُهُ عَلَى شُهُودِ وَقْتِهِ، فَلَا يَتَّسِعُ لَهُ.
وَأَمَّا صَوْلَةُ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى رُوحِهِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُشَاهَدَةُ تَعَلُّقُ إِدْرَاكِ الرُّوحِ بِشُهُودِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَهِيَ شُهُودُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ- كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ- اقْتَضَى هَذَا الشُّهُودُ صَوْلَةً عَلَى الرُّوحِ. فَحَيْثُ صَارَ الْحُكْمُ لَهُ دُونَهَا: انْطَوَى حُكْمُ الشَّاهِدِ فِي شُهُودِهِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.

.[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: دَهْشَةُ الْمُحِبِّ عِنْدَ صَوْلَةِ الِاتِّصَالِ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: دَهْشَةُ الْمُحِبِّ عِنْدَ صَوْلَةِ الِاتِّصَالِ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ، وَصَوْلَةِ نُورِ الْقُرْبِ عَلَى نُورِ الْعَطْفِ، وَصَوْلَةِ شَوْقِ الْعِيَانِ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ.
الِاتِّصَالُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ، وَاتِّصَالُ الْوُجُودِ، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، يَجِلُّ عَنْهُ جَنَابُ الْحَقِّ تَعَالَى.
وَالْعَطِيَّةُ هَاهُنَا: هِيَ الْوَارِدَاتُ الَّتِي تَرِدُ فِي لُطْفٍ وَخَفَاءٍ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ تَعَالَى. وَهِيَ أَلْطَافٌ يُعَامِلُ الْمَحْبُوبُ بِهَا مُحِبَّهُ، وَتُوجِبُ قُرْبًا خَالِصًا هُوَ الْمُسَمَّى بِالِاتِّصَالِ. فَيَصُولُ ذَلِكَ الْقُرْبُ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ. فَيَغِيبُ الْعَبْدُ عَنْهَا وَعَنْ شُهُودِهَا. وَيُنْسِيهِ إِيَّاهَا. لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنَ الدَّهْشِ.
وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ: تَوَاتُرَ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا عَلَيْهِ، حَتَّى يُدْهِشَهُ كَثْرَتُهَا وَتَنَوُّعُهَا. فَتُوجِبُ لَهُ كَثْرَتُهَا دَهْشَةً، تَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَعَتِهَا، مَعَ انْضِمَامِ ذَلِكَ إِلَى صَوْلَةِ الْقُرْبِ. وَهِيَ وَارِدَاتٌ وَأَنْوَارٌ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. تَمْحُو ظُلَمَ نَفْسِهِ وَرَسْمَهُ.
وَأَمَّا صَوْلَةُ نُورِ الْقُرْبِ عَلَى نُورِ الْعَطْفِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا كُرِّرَ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ. فَإِنَّ لُطْفَ الْعَطِيَّةِ كُلَّهُ نُورُ عَطْفٍ، وَالِاتِّصَالُ هُوَ الْقُرْبُ نَفْسُهُ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اتِّصَالٍ يَتَوَهَّمُهُ مَلَاحِدَةُ الطَّرِيقِ وَزَنَادِقَتُهُمْ.
وَأَمَّا صَوْلَةُ شَوْقِ الْعِيَانِ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ.
فَمُرَادُهُ بِهَا: أَنَّ الْمُرِيدَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَالِكٌ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ. فَإِذَا تَرَقَّى عَنْهُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُ: بَقِيَ شَوْقُهُ بِشَوْقِ الْعِيَانِ. فَصَالَ هَذَا الشَّوْقُ عَلَى الشَّوْقِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ، وَإِلَّا فَالْعِيَانُ فِي الدُّنْيَا لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
وَمَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ مَلْبُوسًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ فَوْقَ الْإِحْسَانِ لِلصِّدِّيقِينَ مَرْتَبَةٌ إِلَّا بَقَاؤُهُمْ فِيهِ. فَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ عِيَانًا فَالتَّسْمِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُخْلَصَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَأَكْثَرُ آفَاتِ النَّاسِ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعِزُّ فِيهَا تَصَوُّرُ الْحَقِّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْبِيرُ الْمُطَابِقُ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ضَعْفِ التَّصَوُّرِ، وَقُصُورِ التَّعْبِيرِ: نَوْعُ تَخْبِيطٍ. وَيَتَزَايَدُ عَلَى أَلْسِنَةِ السَّامِعِينَ لَهُ وَقُلُوبِهِمْ، بِحَسَبِ قُصُورِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ. فَتَفَاقَمَ الْخَطْبُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ. وَالْتَبَسَ طَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّادِقِينَ بِطَرَائِقِ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ. وَعَزَّ الْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. فَدَخَلَ عَلَى الدِّينِ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَأُشِيرَ إِلَى أَعْظَمِ الْخَلْقِ كُفْرًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلْحَادًا فِي دِينِهِ: بِأَنَّهُ مِنْ شُيُوخِ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالسُّلُوكِ.
وَلَوْلَا ضَمَانُ اللَّهِ بِحِفْظِ دِينِهِ، وَتَكَفُّلِهِ بِأَنْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يُجَدِّدُ أَعْلَامَهُ، وَيُحْيِي مِنْهُ مَا أَمَاتَهُ الْمُبْطِلُونَ. وَيُنْعِشُ مَا أَخْمَلَهُ الْجَاهِلُونَ: لَهُدِّمَتْ أَرْكَانُهُ، وَتَدَاعَى بُنْيَانُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.

.فَصْلٌ: فِي مَنْزِلَةِ الْهَيَمَانِ:

وَقَدْ يَعْرِضُ لِلسَّالِكِ عِنْدَ وُرُودِ بَعْضِ الْمَعَانِي وَالْوَارِدَاتِ الْعَجِيبَةِ عَلَى قَلْبِهِ: فَرْطُ تَعَجُّبٍ، وَاسْتِحْسَانٍ وَاسْتِلْذَاذٍ، يُزِيلُ عَنْهُ تَمَاسُكَهُ، فَيُورِثُهُ ذَلِكَ الْهَيَمَانَ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ السَّيْرِ، وَلَا مَنَازِلِ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودَةِ بِالنُّزُولِ فِيهَا لِلْمُسَافِرِينَ. خِلَافًا لِصَاحِبِ الْمَنَازِلِ. حَيْثُ عَدَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ وَغَايَاتِهَا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْهَيَمَانِ وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي لِسَانِ سَلَفِ الْقَوْمِ.
وَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الِاسْتِشْهَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} وَمَا أَبْعَدَ الْآيَةَ مِنَ اسْتِشْهَادِهِ. وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مُوسَى ذَهَبَ عَنْ تَمَاسُكِهِ، لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيمِ الْإِلَهِيِّ فَأَوْرَثَهُ ذَلِكَ هَيَمَانًا صُعِقَ مِنْهُ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ. وَإِنَّمَا صُعِقَ مُوسَى عِنْدَ تَجَلِّي الرَّبِّ تَعَالَى لِلْجَبَلِ وَاضْمِحْلَالِهِ، وَتَدَكْدُكِهِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ تَعَالَى.
فَالِاسْتِشْهَادُ بِالْآيَةِ فِي مَنْزِلَةِ الْفَنَاءِ الَّتِي تَضْمَحِلُّ فِيهَا الرُّسُومُ: أَنْسَبُ وَأَظْهَرُ. لِأَنَّ تَدَكْدُكَ الْجَبَلِ: هُوَ اضْمِحْلَالُ رَسْمِهِ عِنْدَ وُرُودِ نُورِ التَّجَلِّي عَلَيْهِ. وَالصَّعْقُ فَنَاءٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِهَذَا الْوَارِدِ الْمُفْنِي لِبَشَرِيَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَدْ حَدَّهُ بِأَنَّهُ الذَّهَابُ عَنِ التَّمَاسُكِ تَعَجُّبًا أَوْ حَيْرَةً.
يَعْنِي: أَنَّ الْهَائِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ نَفْسِهِ لِلْوَارِدِ تَعَجُّبًا مِنْهُ وَحَيْرَةً.
قَالَ: وَهُوَ أَثْبَتُ دَوَامًا، وَأَمْلَكُ لِلنَّعْتِ مِنَ الدَّهِشِ.
يَعْنِي: أَنَّ الْهَائِمَ قَدْ يَسْتَمِرُّ هَيَمَانُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً. بِخِلَافِ الْمَدْهُوشِ. وَصَاحِبُ الْهَيَمَانِ يَمْلِكُ عِنَانَ الْقَوْلِ. فَيُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ. وَيَتَمَكَّنُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ. وَأَمَّا الدَّهِشُ: فَلِضِيقِ مَعْنَاهُ، وَقِصَرِ زَمَانِهِ: لَمْ يَمْلِكِ النَّعْتَ. فَالْهَائِمُ أَمْلَكُ بِنَعْتِ حَالِهِ وَوَارِدِهِ مِنَ الْمَدْهُوشِ.

.[دَرَجَاتُ الْهَيَمَانِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى هَيَمَانٌ فِي شِيَمِ أَوَائِلِ بَرْقِ اللُّطْفِ عِنْدَ قَصْدِ الطَّرِيقِ]:

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ لِلْهَيَمَانِ. الْأُولَى: هَيَمَانٌ فِي شِيَمِ أَوَائِلِ بَرْقِ اللُّطْفِ عِنْدَ قَصْدِ الطَّرِيقِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْعَبْدِ خِسَّةَ قَدْرِهِ، وَسَفَالَةَ مَنْزِلَتِهِ. وَتَفَاهَةَ قِيمَتِهِ يُرِيدُ: أَنَّ الْقَاصِدَ لِلسُّلُوكِ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَوَاقِعِ لُطْفِ رَبِّهِ بِهِ- حَيْثُ أَهَّلَهُ لِمَا لَمْ يُؤَهِّلْ لَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَهُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ- أَوْرَثَهُ ذَلِكَ النَّظَرُ تَعَجُّبًا يُوقِعُهُ فِي نَوْعٍ مِنَ الْهَيَمَانِ.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الْبَلَاءِ فَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ تَدْرُونَ مَنْ هُمْ أَهْلُ الْبَلَاءِ؟ هُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ.
وَتَقْوَى هَذِهِ الْحَالُ إِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا شُهُودُ الْعَبْدِ خِسَّةَ قَدْرِ نَفْسِهِ. فَاسْتَصْغَرَهَا أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِمَا أُهِّلَتْ لَهُ. وَكَذَلِكَ شُهُودُ سَفَالَةِ مَنْزِلَتِهِ أَيِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ، وَكَذَلِكَ شُهُودُ تَفَاهَةِ قِيمَتِهِ أَيْ خِسَّتِهَا وَقِلَّتِهَا.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ: احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتِعْظَامُهُ لِلُطْفِ رَبِّهِ بِهِ، وَتَأْهِيلِهِ لَهُ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ: الْهَيَمَانُ الْمَذْكُورُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ الشُّهُودَيْنِ: أُمُورٌ أُخْرَى، أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَأَشْرَفُ مِنَ الْهَيَمَانِ- مِنْ مَحَبَّةٍ وَحَمْدٍ وَشُكْرٍ، وَعَزْمٍ وَإِخْلَاصٍ، وَنَصِيحَةٍ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَسُرُورٍ وَفَرَحٍ بِرَبِّهِ، وَأُنْسٍ بِهِ- هِيَ مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا. بِخِلَافِ عَارِضِ الْهَيَمَانِ. فَإِنَّهُ لَا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: هَيَمَانٌ فِي تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ التَّحْقِيقِ عِنْدَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: هَيَمَانٌ فِي تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ التَّحْقِيقِ، عِنْدَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ، وَتَوَاصُلِ عَجَائِبِهِ، وَلَوَامِعِ أَنْوَارِهِ.
يُرِيدُ: أَنَّ السَّالِكَ وَالْمُرِيدَ إِذَا لَاحَتْ لَهُ أَنْوَارُ تَحَقُّقِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ: اهْتَدَى بِهَا إِلَى الْقَصْدِ، عَنْ بَصِيرَةٍ مُسْتَجَدَّةٍ، وَيَقَظَةٍ مُسْتَعِدَّةٍ. فَاسْتَنَارَ بِهَا قَلْبُهُ، وَأَشْرَقَ لَهَا سِرُّهُ. فَتَلَاطَمَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ التَّحْقِيقِ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ. فَهَامَ قَلْبُهُ فِيهَا. وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ كُلُّ طَالِبٍ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ انْفَتَحَتْ لَهُ الطُّرُقُ وَالْأَبْوَابُ إِلَى تَحْصِيلِهِ.
وَيُرِيدُ بِتَوَاصُلِ عَجَائِبِهِ: تَتَابُعُ عَجَائِبِ التَّحْقِيقِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا لَا يُحْجَبُ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَقِفُ فِي طَرِيقِ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ لَوَامِعُ أَنْوَارِهِ وَأَعْظَمُ مَا يَجِدُ هَذَا الْوَجْدَ: عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ. وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ لِلْفَهْمِ. وَنِسْبَةُ مَا دُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ: كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: هَيَمَانٌ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ وَمُعَايَنَةِ سُلْطَانِ الْأَزَلِ]

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: هَيَمَانٌ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ، وَمُعَايَنَةِ سُلْطَانِ الْأَزَلِ، وَالْغَرَقِ فِي بَحْرِ الْكَشْفِ.
يُرِيدُ: هَيَمَانَ الْفَنَاءِ. وَالْوُقُوعُ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاضْمِحْلَالِ الرَّسْمِ وَفَنَائِهِ فِي شُهُودِ الْقِدَمِ. فَإِنَّهُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ. وَكَذَلِكَ مُعَايَنَةُ سُلْطَانِ الْأَزَلِ لَا يَبْقَى مَعَهَا مُعَايَنَةُ رُسُومِ الْكَائِنَاتِ وَأَطْلَالِ الْحَادِثَاتِ.
وَأَمَّا بَحْرُ الْكَشْفِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: فَهُوَ انْكِشَافُ الْحَقِيقَةِ لِعَيْنِ الْقَلْبِ. وَلَا تَعْتَقِدْ أَنَّ لِلسَّالِكِ وَرَاءَ مَقَامِ الْإِحْسَانِ شَيْئًا أَعْلَى مِنْهُ. بَلِ الْإِحْسَانُ مَرَاتِبُ. وَأَمَّا الْكَشْفُ الْحَقِيقِيُّ لِلْحَقِيقَةِ: فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ.
وَالْقَوْمُ يَلُوُحُ لِأَحَدِهِمْ أَنْوَارٌ هِيَ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ وَمُعَامَلَاتُ الْقُلُوبِ، وَآثَارُ الْأَحْوَالِ الصَّادِقَةِ فَيَظُنُّونَهَا نُورَ الْحَقِيقَةِ. وَلَا يَأْخُذُهُمْ فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَإِنَّمَا هِيَ أَنْوَارٌ فِي بَوَاطِنِهِمْ لَيْسَ إِلَّا، وَبَابُ الْعِصْمَةِ مِنْ غَيْرِ الرُّسُلِ مَسْدُودٌ إِلَّا عَمَّنِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: الْبَرْقُ:

وَمِنْ أَنْوَارِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نُورُ الْبَرْقِ.
الَّذِي يَبْدُو لِلْعَبْدِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَهُوَ لَامِعٌ يَلْمَعُ لِقَلْبِهِ. يُشْبِهُ لَامِعَ الْبَرْقِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْبَرْقُ مَعْنَاهُ: بَاكُورَةٌ تَلْمَعُ لِلْعَبْدِ. فَتَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ.
وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}.
وَوَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ: أَنَّ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى كَانَتْ مَبْدَأً فِي طَرِيقِ نُبُوَّتِهِ.
وَالْبَرْقُ مَبْدَأٌ فِي طَرِيقِ الْوَلَايَةِ الَّتِي هِيَ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ.
وَقَوْلُهُ بَاكُورَةٌ: الْبَاكُورَةُ هِيَ أَوَّلُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ بَاكُورَةُ الثِّمَارِ. وَهُوَ لِمَا سَبَقَ نَوْعَهُ فِي النُّضْجِ.
وَقَوْلُهُ يَلْمَعُ لِلْعَبْدِ أَيْ يَبْدُو لَهُ وَيَظْهَرُ فَتَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يُرِدْ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ. فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْيَقَظَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: طَرِيقَ أَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ.
وَعَلَى هَذَا: فَالْبَرْقُ- الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ- هُوَ بَرْقُ الْأَحْوَالِ، لَا بَرْقُ الْأَعْمَالِ، أَوْ بَرْقٌ لَا سَبَبَ لَهُ مِنَ السَّالِكِ. إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ: أَنَّهُ أَخَذَ- بَعْدَ تَعْرِيفِهِ- يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ.
فَقَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ الْبَرْقُ: أَنَّ الْوَجْدَ يَقَعُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَالْبَرْقُ قَبْلَهُ. فَالْوَجْدُ زَادٌ. وَالْبَرْقُ إِذْنٌ.
يُرِيدُ: أَنَّ الْبَرْقَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُبْدِيهِ لَهُ. فَيَدْعُوهُ بِهِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ. وَالْوَجْدُ هُوَ شِدَّةُ الطَّلَبِ، وَقُوَّتُهُ الْمُوجِبَةُ لِتَأْجِيجِ اللَّهِيبِ مِنَ الشُّهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْوَجْدُ زَادٌ يَعْنِي: أَنَّهُ يَصْحَبُ السَّالِكَ كَمَا يَصْحَبُهُ زَادُهُ. بَلْ هُوَ مِنْ نَفَائِسِ زَادِهِ وَالْبَرْقُ إِذْنٌ يَعْنِي إِذْنًا فِي السُّلُوكِ، وَالْإِذْنُ إِنَّمَا يُفْسِحُ لِلسَّالِكِ فِي الْمَسِيرِ لَا غَيْرَ.

.[دَرَجَاتُ الْبَرْقِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْعِدَةِ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ]:

قَالَ: وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ لِلْبَرْقِ. الْأُولَى: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْعِدَةِ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ. فَيَسْتَكْثِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَطَاءِ، وَيَسْتَقِلُّ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، وَيَسْتَحْلِي فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ.
يَعْنِي بِالْعِدَةِ: مَا وَعَدَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَعِنْدَ اللِّقَاءِ.
وَقَوْلُهُ يَلْمَعُ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ أَيْ يَبْدُو فِي حَقِيقَةِ الرَّجَاءِ مِنْ أُفُقِهِ وَنَاحِيَتِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْثَارَ الْقَلِيلِ- وَلَا قَلِيلَ مِنَ اللَّهِ- مِنْ عَطَائِهِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِكْثَارِ: أَرْبَعَةُ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: نَظَرُهُ إِلَى جَلَالَةِ مُعْطِيهِ وَعَظَمَتِهِ.
الثَّانِي: احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ. فَإِنَّ ازْدِرَاءَهُ لَهَا: يُوجِبُ اسْتِكْثَارَ مَا يَنَالُهُ مِنْ سَيِّدِهِ.
الثَّالِثُ: مَحَبَّتُهُ لَهُ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا تَمَكَّنَتْ مِنَ الْعَبْدِ اسْتَكْثَرَ قَلِيلَ مَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا- قَبْلَ الْعَطَاءِ- لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلْفٌ بِهِ، وَلَا اتِّصَالٌ بِالْعَطِيَّةِ. فَلَمَّا فَاجَأَتْهُ: اسْتَكْثَرَهَا.
وَأَمَّا اسْتِقْلَالُهُ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ- وَهُوَ التَّعَبُ وَالنَّصَبُ- فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ بَرْقُ الْوُعُودِ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ: حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْجِدِّ وَالطَّلَبِ. وَحَمَلَ عَنْهُ مَشَقَّةَ السَّيْرِ. فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مِنْ مَسِّ الْإِعْيَاءِ وَالنَّصَبِ مَا يَجِدُهُ مَنْ لَمْ يَشُمَّ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ اسْتِحْلَاؤُهُ- فِي هَذَا الْبَرْقِ- مَرَارَةَ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْبَلَاءُ الَّذِي يَخْتَبِرُ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ، لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَصْبَرُ وَأَصْدَقُ، وَأَعْظَمُ إِيمَانًا، وَمَحَبَّةً وَتَوَكُّلًا وَإِنَابَةً؟ فَإِذَا لَاحَ لِلسَّالِكِ هَذَا الْبَرْقُ: اسْتَحْلَى فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ فِي عَيْنِ الْحَذَرِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ فِي عَيْنِ الْحَذَرِ. فَيَسْتَقْصِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ، وَيَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ عَلَى الْقُرْبِ. وَيَرْغَبُ فِي تَطْهِيرِ السِّرِّ.
هَذَا الْبَرْقُ أُفُقُهُ وَعَيْنُهُ: غَيْرُ أُفُقِ الْبَرْقِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ هَذَا يَلْمَعُ مِنْ أُفُقِ الْحَذَرِ، وَذَاكَ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ. فَإِذَا شَامَ هَذَا الْبَرْقَ: اسْتَقْصَرَ فِيهِ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ. وَتَخَيَّلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ: أَنَّ الْمَنِيَّةَ تُعَافِصَهُ وَتُفَاجِئُهُ.
فَاشْتَدَّ حَذَرُهُ مِنْ هُجُومِهَا، مَخَافَةَ أَنْ تَحِلَّ بِهِ عُقُوبَةُ اللَّهِ، وَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِعْتَابِ وَالتَّأَهُّبِ لِللِّقَاءِ. فَيَلْقَى رَبَّهُ قَبْلَ الطُّهْرِ التَّامِّ. فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ لِلصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.
وَهَذَا يُذَكِّرُ الْعِبَادَ بِالتَّطَهُّرِ لِلْمُوَافَاةِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَالدُّخُولِ وَقْتَ اللِّقَاءِ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، وَفَهِمَ أَسْرَارَ الْعِبَادَاتِ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ الْمُحَرَّمَ بِوَجْهِهِ، وَيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيُطَهِّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ، وَمَوْضِعَ مَقَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ يُخْلِصُ لَهُ النِّيَّةَ. فَهَكَذَا الدُّخُولُ عَلَيْهِ وَقْتَ اللِّقَاءِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ. وَيَسْتُرَ عَوْرَاتِهِ الْبَاطِنَةَ بِلِبَاسِ التَّقْوَى. وَيُطَهِّرَ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ وَجَوَارِحَهُ مِنْ أَدْنَاسِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَيَتَطَهَّرَ لِلَّهِ طُهْرًا كَامِلًا. وَيَتَأَهَّبَ لِلدُّخُولِ أَكْمَلَ تَأَهُّبٍ. وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ نَظِيرُ وَقْتِ الْمُوَافَاةِ.
فَإِذَا تَأَهَّبَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْوَقْتِ: جَاءَهُ الْوَقْتُ وَهُوَ مُتَأَهِّبٌ. فَيَدْخُلُ عَلَى اللَّهِ. وَإِذَا فَرَّطَ فِي التَّأَهُّبِ: خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ التَّأَهُّبِ. إِذْ هُجُومُ وَقْتِ الْمُوَافَاةِ مُضَيَّقٌ لَا يَقْبَلُ التَّوْسِعَةَ. فَلَا يُمَكِّنُ الْعَبْدَ مِنَ التَّطَهُّرِ وَالتَّأَهُّبِ عِنْدَ هُجُومِ الْوَقْتِ. بَلْ يُقَالُ لَهُ: هَيْهَاتَ، فَاتَ مَا فَاتَ، وَقَدْ بَعُدَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّطَهُّرِ الْمَسَافَاتُ. فَمَنْ شَامَ بَرْقَ الْوَعِيدِ بِقِصَرِ الْأَمَلِ: لَمْ يَزَلْ عَلَى طَهَارَةٍ.
وَأَمَّا تَزْهِيدُهُ فِي الْخَلْقِ عَلَى الْقُرْبِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَهُ أَوْ مُنَاسِبِيهِ، أَوْ مُجَاوِرِيهِ وَمُلَاصِقِيهِ، أَوْ مُعَاشِرِيهِ وَمُخَالِطِيهِ: فَلِكَمَالِ حَذَرِهِ، وَاسْتِعْدَادِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا أَمَامَهُ، وَمُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ مِنْ أُفُقِ ذَلِكَ الْبَارِقِ الَّذِي لَيْسَ بِخُلَّبٍ، بَلْ هُوَ أَصْدَقُ بَارِقٍ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ عَنْ قُرْبٍ أَيْ عَنْ أَقْرَبِ وَقْتٍ. فَلَا يَنْتَظِرُ بِزُهْدِهِ فِيهِمْ: أَمَلًا يُؤَمِّلُهُ. وَلَا وَقْتًا يَسْتَقْبِلُهُ.
قَوْلُهُ وَيَرْغَبُ فِي تَطْهِيرِ السِّرِّ يَعْنِي تَطْهِيرَ سِرِّهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ اللُّطْفِ فِي عَيْنِ الِافْتِقَارِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ اللُّطْفِ فِي عَيْنِ الِافْتِقَارِ. فَيُنْشِئُ سَحَابَ السُّرُورِ. وَيُمْطِرُ مَطَرَ الطَّرَبِ. وَيَجْرِي مِنْ نَهْرِ الِافْتِخَارِ.
هَذَا الْبَرْقُ يَلْمَعُ مِنْ أُفُقِ مُلَاطَفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ بِأَنْوَاعِ الْمُلَاطَفَاتِ. وَمَطْلَعُ هَذَا الْبَرْقِ: فِي عَيْنِ الِافْتِخَارِ، الَّذِي هُوَ بَابُ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ. وَكُلُّ طَرِيقٍ سِوَاهُ فَمَسْدُودٌ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمُتَابَعَةِ. فَلَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ أَلْبَتَّةَ أَبَدًا- وَلَوْ تَعَنَّى الْمُتَعَنُّونَ، وَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ- إِلَّا الِافْتِقَارُ، وَمُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَقَطْ. فَلَا يُتْعِبُ السَّالِكُ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. فَإِنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ. وَهُوَ صَيْدُ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ.
قَوْلُهُ فَيُنْشِئُ سَحَابَ السُّرُورِ أَيْ يُنْشِئُ لِلْعَبْدِ سُرُورًا خَاصًّا وَفَرَحًا بِرَبِّهِ لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْحَةً مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَنِسْمَةً مِنْ رِيحِ شَمَالِهِمْ. فَإِذَا نَشَأَ لَهُ ذَلِكَ السَّحَابُ أَمْطَرَ عَلَيْهِ صَيِّبَ الطَّرَبِ، فَطَرِبَ بَاطِنُهُ وَسِرُّهُ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ وَوَلِيِّهِ. وَإِذَا اشْتَدَّ ذَلِكَ الطَّرَبُ. جَرَى بِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ، يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يُرِيدُ بِهِ: افْتِخَارُهُ عَلَى الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ مَخِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ، طَرَبًا وَافْتِخَارًا عَلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عِنْدَ الْحَرْبِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُرَاغَمَةِ أَعْدَائِهِ، وَيُحِبُّ الْخُيَلَاءَ عِنْدَ الصَّدَقَةِ- كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ- لِسِرٍّ عَجِيبٍ، يَعْرِفُهُ أُولُو الصَّدَقَاتِ وَالْبَذْلِ مِنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ ارْتِيَاحِهِمْ لِلْعَطَاءِ، وَابْتِهَاجِهِمْ بِهِ، وَاخْتِيَالِهِمْ عَلَى النَّفْسِ الشَّحِيحَةِ الْأَمَّارَةِ بِالْبُخْلِ. وَعَلَى الشَّيْطَانِ الْمُزَيِّنِ لَهَا ذَلِكَ:
وَهُمْ يُنْفِذُونَ الْمَالَ فِي أَوَّلِ الْغِنَى ** وَيَسْتَأْنِفُونَ الصَّبْرَ فِي آخِرِ الصَّبْرِ

مَغَاوِيرُ لِلْعَلْيَا مَغَابِيرُ لِلْحِمَى ** مَفَارِيجُ لِلْغُمَّى مَدَارِيكُ لِلْوِتْرِ

وَتَأْخُذُهُمْ فِي سَاعَةِ الْجُودَ هِزَّةٌ ** كَمَا تَأْخُذُ الْمِطْرَابَ عَنْ نَزْوَةِ الْخَمْرِ

فَهَذَا الِافْتِخَارُ مِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ.
أَوْ يُرِيدُ بِهِ: أَنَّهُ حَرِيٌّ بِالِافْتِخَارِ بِمَا تَمَيَّزَ بِهِ. وَلَمْ يَفْتَخِرْ بِهِ إِبْقَاءً عَلَى عُبُودِيَّتِهِ وَافْتِقَارِهِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَاحَظَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَلْطَافِ، وَشَهِدَهُ مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ، وَمَحْضِ الْجُودِ: شَهِدَ مَعَ ذَلِكَ فَقْرَهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشُّكْرِ، وَأَسْبَابِ الْمَزِيدِ، وَتَوَالِي النِّعَمِ عَلَيْهِ.
وَكُلَّمَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ: أَنْشَأَتْ فِي قَلْبِهِ سَحَائِبَ السُّرُورِ. وَإِذَا انْبَسَطَتْ هَذِهِ السَّحَائِبُ فِي سَمَاءِ قَلْبِهِ، وَامْتَلَأَ بِهَا أُفُقُهُ: أَمْطَرَتْ عَلَيْهِ وَابِلَ الطَّرَبِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ السُّرُورِ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ وَابِلٌ فَطَلٌّ. وَحِينَئِذٍ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ وَظَاهِرِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ مِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَلَا فَخْرٍ، بَلْ فَرَحًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فَالِافْتِخَارُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالِافْتِقَارُ وَالِانْكِسَارُ فِي بَاطِنِهِ، وَلَا يُنَافِي أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ فَكَيْفَ أَخْبَرَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ افْتِخَارًا بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلَكِنْ إِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ بِقَدْرِ إِمَامِهِمْ وَمَتْبُوعِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ. لِتَعْرِفَ الْأُمَّةُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ.
وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لِلْعَزِيزِ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فَإِخْبَارُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْعَزِيزِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَعَلَى نَفْسِهِ: كَانَ حَسَنًا. إِذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْفَخْرَ عَلَيْهِمْ، فَمَصْدَرُ الْكَلِمَةِ وَالْحَامِلُ عَلَيْهَا يُحَسِّنُهَا وَيُهَجِّنُهَا. وَصُورَتُهُ وَاحِدَةٌ.